تركيا.
كان إعلان الجمهورية التركية 1923 بمثابة تحول حقيقي وجذري في المشهد الديني والمجتمعي التركي، بدءا من إلغاء الخلافة والسلطنة، مرورا بتتريك اللغة ومنع الأذان ومحاصرة الأوقاف الدينية، وانتهاءً باجتثاث الطرق الصوفية من المشهد برمته. فلا حديث عن توجه ديني فكري -حتى ولو كان قشريا- يتناول العبادات والنسك وحسب، أو آخر مقصور على مجادلات لفظية ولغوية تدور في فلك التصوف المسالم والمهادن بطبعه، وكان المبدأ العلماني من أهم المبادئ التي اتسمت بها تطبيقات حكومات الجمهورية، وقد حرص قادة الدولة الوليدة على بناء تركيا جديدة ذات توجّه غربي في الثقافة والرؤية السياسيّة، دون مراعاة للموروثات القيميّة والحضاريّة لدى المجتمع التركي.
بطبيعة الحال، وفي خضم هذا الطقس السياسي المغاير لسابقه، كان من الصعب أن تنبت خلاله أية تيارات فكرية دينية، سواء أكانت صوفية، سلفية أو غيرها، إذ كانت العلمانية وأيديولوجيتها أحد الأسس والمبادئ الرئيسة التي أقرها الحكم الجديد، وخاصة أن الأيديولوجية العلمانية اعتبرت بمثابة آلية الإصلاح الفريدة، التي يمكن من خلالها أن يقف الأتراك على مساحة متقاربة من التحديث القائم في الغرب آنذاك، والتي ستلقي بظلالها على الدولة، والدفع بقاطرتها نحو التطور والتمدن/ الغايتين والهدفين الأسمى للجمهورية التركية وعلمانيتها. وما إن حلت سنة 1937 حتى أقر الدستور "العلمانية" ولم يعد من حق أي تيار سياسي أن يناقش هذا المبدأ، وإلا وقع تحت طائلة القانون.
تحرير المجتمع التركي
انطلاقًا من تلك العلمانية وضع الكماليون -نسبة إلى النظام الكمالي الذي وضعه مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الدولة التركية الحديثة- على عاتقهم تخليص المجتمع التركي من هذه الآلية التي وظفت الإسلام ووضعته في صدارة المشهدين السياسي والمجتمعي الديني، من خلال خلق نخبة سياسية وثقافية –ومواطنين من الطبقات كافة- تنطلق من العلمانية فكرًا وممارسة وسلوكًا، وهوية –أيضا- متخطية بها القومية والدينية إلى نطاق أرحب، وأن تكون محايدة تجاه الأديان.
فيما تمكّن حزب الدولة "الشعب الجمهوري" من خلال دستوره الجديد –العلماني- من إخماد أشكال المعارضة السياسيّة والإسلاميّة كافة، وقمعها بالقوانين المختلفة، وهو ما دفع الطرق الصوفيّة والجماعات الإسلاميّة مثل الطريقة "النقشبنديّة" وجماعة "السليمانيّين" نسبة إلى الشيخ سليمان حلمي طوناخان، وجماعة "النور" نسبة إلى بديع الزمان سعيد النورسي، إلى القيام -سرًّا وخفية- بواجبها الديني للحفاظ على الإسلام وتعاليمه وقيمه الثقافية والحضاريّة حيّة داخل وجدان الشعب التركي.
فيما تزامن مع التحول السياسي الذي لحق بالدولة التركية وتحولها من النظام العثماني إلى النظام الجمهوري، ظهور رموز إسلامية ودعاة إصلاحيين، ظهروا كردة فعل لسقوط الخلافة التي مثلت لهم أكبر هزيمة تاريخية وثقافية ومعرفية في حياة المسلمين المعاصرين في ذلك الوقت، وكانت السلفية الوهابية قد وجدت لها تابعين جددا، ومؤمنين بجدوى الحل السلفي الإصلاحي لعودة الخلافة من جديد، كل حسب تقديره ورؤيته وهيكلته، فظهرت في ذلك الوقت، وخلال عقود تلت من انتهاء عصر الخلافة العثمانية، أسماء إسلامية، ما زالت حاضرة بفكرها وأدبياتها إلى يومنا هذا، تتأرجح بين الإسلام في قالبه الحركي والآخر السلفي، فكان أبو الأعلى المودودي وحسن البنا وسيد قطب وغيرهم.
في مقابل ذلك، وقفت النخبة التركية من تلك الرموز موقف المعارض، خاصة تلك التي انطلقت من قاعدة سلفية وهابية معتمدة على أدبيات شيخ الإسلام ابن تيمية –الذي تقف الأدبيات التركية منه موقف العداء- خاصة أبا الأعلى المودودي وسيد قطب، ولا يمكن سحب ذلك على كل النخبة التركية، بل كان هناك استثناء.
انتقاد صاحب الحاكمية
كان على رأس هؤلاء النخبة التركية: أحمد داود أوغلو، ونجيب فاضل، وحسين حلمي اشق وجماعته، ومحمد على دميرباش، وأحمد فاروق ميان، وغيرهم ممن انتقد أبا الأعلى المودودي بدعوى أنه أدخل الدين في السياسة وفارق جماعة المسلمين وهو غير مذهبي، وتعد كثير من آرائه مخالفة لأسس الإسلام فهي -في نظرهم- صادرة عن مجتهد ليست لديه الأهلية العلمية للاجتهاد، كما دافع عن شيخ الإسلام ابن تيمية وأشار إلى بعض نقاط الضعف عند الإمام الغزالي، من حيث ما عرف عنه بالتمسك بالتصوف والاستدلال بالأحاديث الضعيفة، وبخاصة في كتابه المشهور "إحياء علوم الدين"، وذكره في موضوع آخر من كتابه أنه حيران لا يعرف الطريق، كما نعته نجيب فاضل –أيضا- بالنعت نفسه وزاد عليه أنه لا مذهبي، وأنه إنسان شاذ، واتهم نجيب فاضل قيصة كورك شيخ الإسلام ابن تيمية اتهامات كثيرة منها: "أن ابن تيمية عالم لكنه حيران وضال عن الطريق الصحيح ومتمسك بظاهر النصوص، ولا يعترف بغير الظاهر منها، وأنه يمنح العقل مجالا أوسع مما هو عليه".
ويأتي محمد على دميرباش في كتابه "اللامذهبيون" -يقع في مجلدين- ليقول: "إن شيخ الإسلام كان يخالف آراء أصحاب المذاهب الأربعة، وإنه لم يكن يقبل بكفر من أجمعوا عليه، وإنه لا أحد من علماء السلف امتدح ابن تيمية".
ومما نقله "أحمد فاروق ميان" عن محمد عبدالرحمن سلحتي قوله: إن ابن تيمية كبير الوهابيين وقائدهم، وهو ليس شيخا للإسلام، بل هو شيخ البدع والآثام وقائدها، وإنه أول من تحدث في العقيدة الباطلة.
وقد نقل أحمد داود أوغلو –أيضا- ترجمة لابن تيمية في كتابه المذكور سابقا عن عمر نصوحي بلمن، وقد كان مفتيا في مدينة إسطنبول التركية، ورئيسا للشؤون الدينية عام 1380هـ، ما يفيد بأن شيخ الإسلام خالف العلماء والصحابة في بعض القضايا الفقهية والعقدية، وأنه كان من "المجسمة" وأنه كان شاذًا في آرائه.
وقد قام الكاتب الصحفي محمد شوكت أيكي –أيضا- بتوزيع الاتهامات لأصحاب العقيدة السلفية، وانتقد من سار على طريقتهم في تركيا، فمما ذكره تحت عنوان "فتنة الوهابية" انتقاده اللاذع لبعض دور النشر في تركيا في القيام بترجمة ونشر كتب السلفيين الذين اتفقوا مع جماعات أخرى في هدم مذهب أهل السنة.
بلورة المشروع الإسلامي
ويذهب البعض إلى أن رائد الحركة الإسلامية التركية -الحديثة- الراحل نجم الدين أربكان قد بلور مشروعه الإسلامي النهضوي في كتابه الذي حمل عنوان "ملّي جوروش"، أي "الفكر الوطني" -وهو مشروع فكري حضاري يُنظّر للدولة الإسلاميّة الكبرى- متأثرا بكتابات منظّري الحركات الإسلامية في ذلك الوقت، وكان على رأسهم: الإمام أبو الأعلى المودودي، وسيد قطب، فضلا عن حسن البنّا، وأبي الحسن الندوي، ومطّهري، وبهشتي، على الرغم من انطلاقة حركة الفكر الوطني الصوفية قبل إخضاعها لتحولات التأثير الإسلامي بشقيه الحركي والسلفي، في آن معا، مما ألقى بظلاله -بعد ذلك- على آليات نجم الدين أربكان في تأسيسه لحزبه "النظام الوطني" 1970، والذي كان أول حزب سياسي ذي مرجعية إسلامية في المشهد التركي منذ سقوط الخلافة.
فيما برزت الناحية السلفية في برنامج الحزب، والتي تسببت -إلى حد كبير- في فشل تجربته وعدم بقائها لفترة أطول بعد ذلك؛ لكونها أتت دون مراعاة السياق العام الملتف بها، فضلًا عن معطيات المشهد السياسي القائم –آنذاك- التي لم تكن تتوافق -بقدر كبير- معها أو تتواءم مع متطلباتها، حيث كان برنامج الحزب برنامجًا يعبّر عن الشريعة الإسلاميّة ومقاصدها تعبيرًا واضحًا، حيث نادى بإلغاء الربا، وتغيير نظام الضرائب والقروض وهاجم الماسونيّة والشيوعيّة، ولم يكتب له البقاء لعام واحد حتى جاء انقلاب 1971 وأغلق الحزب بتهمة معاداة العلمانيّة.
ويذكر أن أربكان أعجب بشدة بكتاب "معالم في الطريق"، للشهيد سيد قطب، مما دفعه إلى أن يترجمه إلى اللغة التركية. وعندما عاد أربكان إلى إسطنبول قام بتدريس هذا الكتاب لحلقة صغيرة من الشباب في مسجد "إسكندر صاده"، وعندما اكتشفه الأمن تحول بشكل سري إلى تكوين حلقات، والتي صاغها بعد ذلك وحواها في حزبه السياسي، كما جاء في صدر حديثنا.
خلاصة استنتاجية: لا يمكن القول -بناء على ما سبق- إن ثمة تأثيرات سلفية وهابية، حتى وإن لم تكن عميقة الأثر، في النخبة الفكرية التركية أو المشهد المجتمعي، إذ كانت كلها طفيفة وقشرية أو عبر مشاهدات تدفع نحو تمازج بين الحركي والأيديولوجي، ولا يمكن -بأي حال من الأحوال- اعتبار سيد قطب سلفيا وهابيا؛ إذ كان حالة خاصة لا يمكن وضعها مع السلفية الوهابية في قالب واحد، حتى وإن كان بينهما كثير من التقاطعات والمتداخلات الفكرية.
فيمكننا القول: إن جماعة الإخوان المسلمين كان لها عميق الأثر في الحالة الدينية وتوجهات مخاضات الإسلاميين الجدد الذين خرجوا من عباءة الصوفية.
http://www.middle-east-online.com/
Comments
Post a Comment